ارتفعت وتيرة الأزمة الاقتصاديّة الاجتماعيّة في لبنان، وازدادت سوءاً، وبلغت حدّاً غير مسبوق في انهيار القدرة الشرائيّة لأكثريّة الشعب اللبنانيّ، وارتفاع نسبة مَن هم تحت خطّ الفقر، لتصل إلى أكثر من ثمانين في المئة، من دون أن تلوح في الأفق بوادر حلول تُفضي إلى انحسار حال التدهور، بحيث لن تنفع معها البطاقة الانتخابيّة التي يحلو لقوى السلطة تسميتها "البطاقة التمويليّة" المؤجّلة إلى "يوم الحشر".
وفي هذا الإطار، تطالعنا الحكومات المتعاقبة منذ ظهور الترويكا بعد اتفاق الطائف "بمشاريع إصلاحيّة" ماليّة واقتصاديّة تستهدف بالدرجة الأولى التقديمات الاجتماعيّة والصناديق الضامنة، لتنفيذ رغبة البنك الدوليّ الذي "إذا دخل ملوكه قرية أفسدوها" بسياساتهم النيوليبراليّة.
ولعلّ العنوان الأساسيّ لهذه السياسات هو التخلّص من معاشات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة، والتهرّب من التقديمات الاجتماعيّة التي لا تزال تُحتَسَب على سعر 1500 ليرة للدولار، في حين يدفعها المكلّفون أكثر من عشرة أضعاف. ومثل هذه السياسات نجدها في بلدان العالم الرأسماليّ، من مثل إيطايا وإسبانيا واليونان والمكسيك، ونجد مثلها في بعض البلدان العربية من مثل تونس والمغرب، حتى إنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة وجدت في ضرب حقوق كبار السنّ والمتقاعدين أسهلَ الطرق للتخفيف من أزمتها الاقتصاديّة سنة 2008.
والحقيقة إنّ الهجمة على معاشات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة ليست جديدة في لبنان؛ فقد بدأت في تسعينات القرن الماضي حين أقدمت حكومة الرئيس رفيق الحريري على سابقة تخفيض معاش التقاعد لمن أنهى 40 سنة في الوظيفة العامّة إلى 85% من المعاش الأخير، بعد أن كانت النسبة 100%. وصرنا بعد ذلك نسمع بفذلكات ماليّة لتعويد الموظفين على استساغتها وقبولها، منها إلغاء حصة المتوفين الذين يستفيدون من معاش التقاعد، فضلاً عن تخفيض معاش التقاعد ليصل بين 55 و60%.
وفي الأزمة الراهنة تطلّ هذه المحاولات برأسها من جديد. ولعلّ أوّل بوادرها تظهر في مشاريع " مساعدات" موقّتة للموظفين، على أن يستفيد المتقاعدون بنسبة 60% مما يصيبه زملاؤهم من الفئة الوظيفيّة ذاتها. وهذا يعني أنّ مثل هذه النسبة من " المساعدات" تصبح – مرّة بعد مرّة – أصلاً، ويصبح المعاش التقاعديّ الأساسيّ فرعاً يشبه رقعةً قديمة في بنطلون جديد، فتكون سياسة التآمرعلى معاشات التقاعد قد وجدت لها طريقاً قانونيّاً، لتصبح النسبة الجديدة أمراً واقعاً لا مردّ له.
ومن ناحية ثانية لا تزال التقديمات الاجتماعيّة للصناديق الضامنة تترنّح في دولار الـ1500 ليرة، في حين تحلّق أسعار الأدوية والاستشفاء والطبابة على "جناح " دولار السوق السوداء، الأمر الذي يجعل آلاف الموظفين وعائلاتهم، فضلاً عن موظفي القطاع الخاص، عرضة للمرض والذلّ والموت على أبواب المستشفيات، ويصبح النضال لاستعادة حقوقنا أمراً بديهيّاً، يجب على الهيئات النقابيّة أخذ المبادرة لهذه الغاية. وكان أسهل الطرق إلى تحقيق مآرب السلطة وضعَ اليد على الحركة النقابيّة، فجرت مصادرتها منذ بداية عهد عبدالله الأمين حتى نهايته، وجرى تدجينها و"تنظيم" حركتها وقطع دابرها.
لذلك تبرز الحاجة إلى نهضة نقابيّة تعيد للعمل النقابيّ اعتباره، وبات العمل على استيلاد حركة نقابيّة جديدة، مهمّة وطنيّة. وإذا كان الشعب اللبنانيّ برمّته يتعرّض للإذلال والجوع، فإنّ الدفاع عن مصالح المتقاعدين وكبار السنّ، وعن حقّهم في حياة حرّة كريمة بات مهمّة ملحّة تقضي بأن تتَّحد الهيئات النقابيّة التي تمثّل المتقاعدين من كلّ الفئات الوظيفيّة في اتّحاد نقابيّ يمثّل رابطة موظّفي القطاع العام ورابطات قدامى أساتذة الجامعة اللبنانيّة، والأساتذة المتقاعدين في التعليم الثانويّ والمعلمين المتقاعدين في التعليم الأساسيّ، والتنسيق مع رابطات العسكريين المتقاعدين بعد توحيد صفوفهم في رابطة واحدة.
إنّ مثل هذا الاتّحاد لم يعد أمراً خياليّاً، بل بات حقيقة قريبة المنال، يجب العمل على بلورة نظام داخليّ له ليأخذ مكانه في الحركة النقابيّة، بعد أن قطع مرحلة من التحضير والنضال المشترك قبيل انتفاضة 17 تشرين وبعدها. ولعلّ هذا الاتّحاد يكون نافذة لقيام حركة نقابية مستقلّة، تستعيد القرار النقابيّ، بعد أن صارت تحرّكات الهيئات النقابيّة الخاضعة للسلطة الممثّلة بهيئة التنسيق النقابيّة والاتّحاد العمّاليّ العام، مشبوهة ومبرمجة تأتي ضمن "أجندة" سلطويّة تشتغل بـ"ريموت كونترول"، وتخدم سياسات محدّدة في هذا الشارع الطائفيّ أو ذاك. فهل يستعيد المتقاعدون السبعينيّون أمجاد شباب سبعينات القرن الماضي؟ الأيام القادمة قادمة.
د. حسن إسماعيل (مسؤول العلاقات العامّة والنقابيّة في رابطة قدامى أساتذة الجامعة اللبنانيّة ) من موقع النهار نُشر في 6/11/2021