Go back

November 05, 2021

التعليم في لبنان: أميّة مقنّعة في زمن الذكاء الاصطناعي!

تتكرّر بين فينة وأخرى مشاهد تظاهر أهالي طلابٍ لبنانيين يدرسون في جامعات الخارج، وقد مَنعت عنهمُ المصارف، بتواطؤٍ وحقدٍ مع المصرف المركزي والسلطة الحاكمة، التحويلات المالية، فتاهوا بين سندان الحاجة ومطرقة الظلم. هكذا ببساطة، في زمن الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا النانو، كُتبَ على اللبناني أن يُساق، قسراً وقهراً، إلى الأميّة المقنّعة! تلكمُ هي الحكاية.

عن البدايات

من زمن مدرسة تحت السنديانة إلى أزمنة ثورة التكنولوجية، لطالما شكل قطاع التعليم في لبنان منذ الخمسينيات إلى السبعينيات من القرن الماضي حالة نموذجية على مستوى مناهج التعليم التي حاكت متطلبات أسواق العمل المحلية والعربية والدولية، إلا أن واقع التعليم اليوم يتقاطع مع حالة الانهيار التي طالت مختلف القطاعات الاقتصادية والمالية والخدماتية، مضافاً إليها انهيار قيمة سعر صرف الليرة مقابل الدولار وتفشي جائحة كورونا، وتداعيات انفجار مرفأ بيروت، بالإضافة إلى تدفق اللاجئين السوريين، كلها عوامل شكّلت ضغطاً على هذا القطاع الذي فقد قدراً كبيراً من ميزاته التفاضلية السابقة، خاصة في القطاع الرسمي بمستوياته المختلفة.

ينقسم قطاع التعليم في لبنان إلى قطاعين: عام وخاص، وفي المستويات كافة، الجامعي وما قبل الجامعي، كما يخضع لإشكاليات كثيرة ككل القضايا والمسائل في لبنان، بحيث تتداخل فيه العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والطائفية والحزبية. عشية الحرب الأهلية، وخلالها، ارتفعت نسبة الالتحاق المدرسي في المرحلة الابتدائية إلى 94%، وهذا يُشير على أن ظروف الحرب على الرغم من قساوتها، لم تؤثر على قوة الطلب الاجتماعي على التعليم، ولم تؤدِ إلى تراجع دراماتيكي فيه. وتوزع التعليم في المراحل الاولى بين المدارس الرسمية والمدارس الخاصة، أما في المرحلة الجامعية فاستحوذت الجامعة اللبنانية على النسبة الأكبر من طلاب لبنان.

من البديهي أن تنعكس تداعيات الحرب التي انتهت عسكرياً ولم تنته سياسياً خاصة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، على جودة ونوعية التعليم ومحتواه، ذلك أن تضافر الضغطين: الاجتماعي والتدخل السياسي، تركا بصماتهما السلبية وأثرا على إمكانية تحديث وتطوير نوعية ومضمون المناهج واستطراداً على جودة وكفاءة التعليم في المؤسسة التربوية خاصة الرسمية منها، إذ تضخمت أعداد حملة الشهادات المدرسية والرسمية دون مراعاة للمهارات ولمعايير تقويم الترفع بين المراحل التعليمية المختلفة، خاصة بعد التراجع الكبير لدور وزارة التربية في مهامها الرقابية وتحوّل الكثير من المؤسسات التربوية الرسمية إلى مساحات للزبائنية السياسية سواء على مستوى الأساتذة أم الطلاب معاً.

عوائق شتّى وسياسات غائبة

لطالما شكّل العامل الاقتصادي عنصر ضغط كبير على جودة التعليم من ناحيتين: الأولى تجلّت في ضعف الانفاق على النوعيّة، والثانية في العجز عن التمكين من رفع الأعباء المتلازمة في العملية التعليمية عن كاهل الأهل ومساعدتهم في صقل مهارات أبناءهم. كان للعامل السياسي الأثر الأقوى في الضغوط التي تعرّض لها قطاع التربية والنظام التربوي في لبنان، إذ كما سبق ذكره خضعت المؤسسات التربوية للسياسات الخدماتية الضيقة والخاصة للطبقة السياسية المرتبطة بالجماعات الطائفية والمذهبية التابعة لها والمنغلقة على بيئتها المجتمعية والتي أخضعت طلابها لتعبئة ثقافية ودينية خاصة بها من خارج مناهج التعليم الرسمي المعتمد، وخارج الرقابة أو الإشراف الرسمي عليها، وهذه الازدواجية، لعبت دوراً أساسياً في عدم تعميم وتعميق مبدأ ومعنى المواطنة الجامعة للأجيال الحاضرة والقادمة على السواء، خاصة وأن هذا الواقع انعكس على عملية اعداد أفراد الهيئة التعليمية التي نهلت أيضاً من هذه الثقافة الفئوية الخاصة، التي تُميز كل مكوّن من مكونات الاجتماع اللبناني.

تفتقد المناهج اللبنانية إلى المحتوى الجامع الذي يهدف لترسيخ مفهوم المواطنة خاصة على مستوى كتب التاريخ والعلوم الانسانية والاجتماعية، علماً أن احدى المعضلات الأساسية التي تواجه مناهج التعليم وطرائق التدريس هو افتقادها للتحديث المستدام الذي يُحاكي التطورات الحاصلة في مناهج التعليم الحديث وتنوع طرائق تدريسها، خاصة تلك التي دخلت عصر المناهج الرقمية والذكاء الاصطناعي والثورة التكنولوجية التي ستكون من الآن فصاعداً من السمات المميّزة للقرن الحالي.

لا يكفي أن تَذكر الحكومات المتعاقبة في بياناتها الوزارية كلاماً عاماً، لا يُترجم إلى قوانين نافذة، كما حصل بالمراسيم القاضية بإنشاء كليات تربية في المحافظات والعودة إلى النظام السابق فيها القاضي بتفرغ الطلاب للدراسة فيها تفرغاً كاملاً على أن يتم الحاقهم عند التخرج بالمدارس والثانوية وفق حاجاتها الملحوظة مسبقاً.

ماذا عن المستقبل؟

إن الاستعصاء الحاصل لدى الحكومات المتعاقبة مردّه إلى القصور في رسم السياسات التربوية الاكاديمية والمهنية وربطها بسوق العمل وهذا ما أوصل التعليم إلى وضعه الراهن، والذي ما زال متعثراً منذ الاستقلال حتى يومنا الحاضر، ما يضع علامات استفهام حول مدى جدية الحكومات في مقاربة هذه المواضيع؟ ولماذا تبقى هذه القضايا مطروحة دون حل، على كافة المستويات، السياسية والاجتماعية والمهنية؟

يعاني القطاع التعليمي والنظام التربوي ككل من أزمة عميقة أفقدته ميزته الجاذبة له والمعهودة سابقاً في المنطقة العربية، وقد أكد على هذه الأزمة البنك الدولي بحيث شدّد على» ضرورة أن يشرَع لبنان على وجه السرعة في تنفيذ أجندة للإصلاح الشامل تعيد تمحور قطاع التعليم حول الطلّاب، وتعطي الأولوية للإرتقاء بجودة التعليم للجميع» وفي ظل تلك الظروف أشار البنك الدولي في تقرير إلى أن «انخفاض مستويات التعلّم وعدم التوافق بين المهارات وحاجات سوق العمل يعرّضان مستقبل الأجيال الصاعدة في لبنان للخطر، وهو ما يكشف الحاجة الملحّة إلى زيادة الاستثمارات في القطاع وتحسين توجيهها» وحتى تتضح الرؤية قدّم البنك الدولي في التقرير حلولاً، واقترح إصلاحات السياسية التربوية على المديين القصير والمتوسط وحتى الطويل.

على الرغم من مرور ما يقارب الثلاثين عاماً على اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية، لم يكتمل بناء الدولة، لا بل إن سلطتها تراجعت لمصلحة المكونات الطائفية-السياسية، ونتيجة لتلك العوامل، تراجع مستوى التعليم الرسمي مع تراجع التشبيك المجتمعي المتبادل بين مكوناته، إذ أن تعزيز التعليم الرسمي في جميع مراحله هو المدخل للاندماج الوطني، وهو ما يتناقض مع المسار العام للسلطة السياسية التي تذهب بإتجاه التطييف، النقيض للاندماج الاجتماعي على أساس المواطنة والولاء للوطن الواحد بشعبه الواحد المتعدد... ثم يأتي من يسأل لماذا نحن في الحضيض؟

من موقع اللواء للكاتبة د. مريم شيحا نُشر في 4/11/2021

© 2025 Sperare